فصل: وفاة السلطان محمود خان وتولية السلطان عثمان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.وفاة السلطان محمود خان وتولية السلطان عثمان:

ومات سلطان الزمان محمود خان العثماني وكانت مدته نيفاً وعشرين سنة، وهو آخر عثمان في حسن السيرة والشهامة والحرمة واستقامة الأحوال والمأثر الحسنة. توفي ثامن عشر صفر سنة 1168.
ومات النبيه النبيل والفقيه الجليل والسيد الأصيل السيد محمد المدعو حمودة السديدي أحد ندماء الأمير رضوان كتخدا، ولد بالمحلة الكبرى وبها نشأ وحفظ القرآن وأشتغل بطلب العلم، فحصل مأموله في الفقه والمعقول والمعاني والبيان والعروض، وعانى نظم الشعر، وكان جيد القريحة حسن السليقة في النظم والنثر والأنشاء وحضر إلى مصر وأخذ عن علمائها وأجتمع بالأمير رضوان كتخدا عزبان الجلفي المشار إليه وصار من خاصة ندمائه، وأمتدحه بقصائد كثيرة طنانة وموشحات ومزدوجة بديعة، والمقامة التي داعب بها الشيخ عمار القروي وأردفها بقصيدة رائية بليغة في هجو المذكور سامحهما الله. وكل ذلك مذكور في الفوائح الجنانية لجامعه الشيخ عبد الله الأدكاوي. حج رحمه الله ومات وهو آيب بأجرود سنة 1163.
ومات الأجل المكرم محمد جلبي ابن إبراهيم جربجي الصابونجي مقتولاً وخبره أنه لما توفي أبوه وأخذ بلاده وبيتهم تجاه العتبة الزرقاء على بركة الأزبكية فتوفي أيضاً عثمان جربجي الصابونجي بمنفلوط وذلك سنة 1147 ومات غيره كذلك من معاتيقهم، وكان محمد جربجي مثل والده بالباب ويلتجيء إلى يوسف كتخدا البركاوي، فلما مات البركاوي خاف من علي كتخدا الجلفي فالتجأ إلى عبد الله كتخدا القازدغلي وعمل ينكجري، فأراد أن يقلده أوده باشه ويلبسه الضلمة، فقصد السفر إلى الوجه القبلي، وذلك في سنة أربع وخمسين، فسافر وأستولى على بلاد عثمان جربجي ومعاتيقه، وقام هناك وكان رذلا نجيلاً طماعاً شرهاً في الدنيا، وكان مماليكه يهربون منه، وكانت أخته زوجا لعمر أغا خازندار أبيه، ولم يفتقدها بشيء.
ولما مات إبراهيم كتخدا القازدغلي ورضوان كتخدا الجلفي بدأ أمر أتباع إبراهيم كتخدا في الظهور، وكان المتعين بالإمارة منهم عثمان بك الجرجاوي وعلي بك الذي عرف بالغزاوي وحسين بك الذي عرف بكشكش، وهؤلاء الثلاثة تقلدوا الصنجقية والإمارة في حياة أستاذهم. والذي تقلد الإمارة منهم بعد موته حسين بك الذي عرف بالصابونجي وعلي بك بلوط قبان وخليل بك الكبير. وأما من تأمر منهم بعد قتل حسين بك الصابونجي فهم حسن بك جوجه وإسمعيل بك أبو مدفع. وأما من تأمر بعد ذلك بعناية علي بك بلوط قبان عندما ظهر أمره فهو إسمعيل بك الأخير الذي تزوج ببنت أستاذه وكان خازنداره وعلي بك السروجي. فلما أستقر أمرهم بعد خروج رضوان كتخدا وزوال دولة الجلفية تعين بالرياسة منهم على أقرانه عثمان بك الجرجاوي، فسار سيراً عنيفاً من غير تدبر وناكد زوجه سيده بنت البارودي وصادرها في بعض تعلقاتها، فشكت أمرها إلى كبار الاختيارية فخاطبوه في شأنها، وكلمه حسن كتخدا أبو شنب فرد عليه رداً قبيحاً فتحزبوا عليه ونزعوه من الرياسة، وقدموا حسين بك الصابونجي وجعلوه شيخ البلد. لم يزل حتى حقد عليه خشداشينه وقتلوه.
وخبر موت حسين بك المذكور أنه لما مات إبراهيم كتخدا قلدوا المذكور إمارة الحج، وطلع سنة 1169 وسنة 1170، ثم تعين بالرياسة وصار هو كبير القوم والمشار إليه وكان كريماً جواداً وجيهاً، وكان يميل بطبعه إلى نصف حرام لأن أصله من مماليك الصابونجي، فهرب من بيته وهو صغير وذهب إلى أبراهيم جاويش فاشتراه من الصابونجي ورباه ورقاه، ثخم زوجه بزوجة محمد جربجي ابن إبراهيم الصابونجي، وسكن بيتهم وعمره ووسعه وأنشأ فيه قاعة عظيمة، فلذلك أشتهر بالصابونجي، ولما رجع من الحجاز قلد عبد الرحمن أغا أغاوية مستحفظان وهو عبد الرحمن أغا المشهور في شهر شعبان من سنة 1171، وطلع بالحج في تلك السنة محمد بك بن الدالي ورجع في سنة 1172 ثم أن المترجم أخرج خشداشه علي بك المعروف ببلوط قبان ونفاه إلى بلده النوسات وأخرج خشداشه أيضاً عثمان بك الجرجاوي منفياً إلى اسيوط وأراد نفي علي بك الغزاوي وإخراجه إلى جهة العادلية،فسعى فيه اختيارية بواسطة نسيبه علي كتخدا الخربطلي وحسن كتخدا أبي شنب فألزمه أن يقيم بمنزل صهره علي كتخدا المذكور ببركة الرطلي ولا يخرج من البيت ولا يجتمع بأحد من أقرانه، وأرسل إلى خشداشه حسين بك المعروف بكشكش فأحضره من جرجا، وكان حاكماً بالولاية، فأمره بالأقامة في قصر العيني ولا يدخل إلى المدينة. ثم أرسل إليه يأمره بالسفر إلى جهة البحيرة، وأحضروا إليه المراكب التي يسافر فيها ويريد بذلك تفرق خشداشينه في الجهات، ثم يرسل إليهم ويقتلهم ليينفرد بالأمر والرياسة، ويستقل بملك مصر، ويظهر دولة نصف حرام وهو غرضه الباطني. وضم إليه جماعة من خشداشينه وتوافقوا معه على مقصد ظاهراً، وهم حسن كاشف جوجه وقاسم كاشف وخليل كاشف جرجي وعلي أغا المنجي وإسمعيل كاشف أبو مدفع وآخر يسمى حسن كاشف. وكانوا من إخصائه وملازميه، فاشتغل معهم حسين بك كشكش واستمالهم سراً وأتفق معهم على أغتياله، فحضروا عنده في يوم الجمعة على جري عادتهم وركبوا صحبته إلى القرافة، فزاروا ضريح الإمام الشافعي ثم رجع صحبتهم إلى مصر القديمة فنزلوا بقصر الوكيل، وباتوا صحبته في أنس وضحك. وفي الصباح حضر إليهم الفطور فأكلوه وشربوا القهوة، وخرج المماليك ليأكلوا الفطور مع بعضهم، وبقي هو مع الجماعة وحده، وكانوا طلبوا منه أنعاماً فكتب إلى كل واحد منهم وصولا بألف ريال وألف أردب قمح وغلال، ووضعوا الأوراق في جيوبهم ثم سحبوا عليه السلاح وقتلوه وقطعوه قطعاً ونزلوا من القصر وأغلقوه على المماليك والطائفة من خارج. وركب حسن كاشف جوجه ركوبة حسين بك وكان موعدهم مع حسين بك كشكش عند المجراة، فإنه لما أحضروا له مراكب السفر تلكأ في النزول وكلما أرسل إليه حسين بك يستعجله بالسفر يحتج بسكون الريح أو ينزل بالمراكب ويعدي إلى البر الآخر ويوهم أنه مسافر ثم يرجع ليلاً ويتعلل بقضاء أشغاله. وأستمر على ذلك الحال ثلاثة أيام حتى تمم أغراضه وشغله مع الجماعة ووعدهم بالأمريات. وأتفق معهم أنه ينتظرهم عند المجراة وهم يركبون مع حسين بك ويقتلونه في الطريق أن لم يتمكنوا من قتله بالقصر. فقدر الله أنهم قتلوه وركبوا حتى وصلوا حسين بك كشكش فأخبروه بتمام الأمر، فركب معهم ودخلوا إلى مصر وذهب كشكش إلى بيت حسين بك الداودية وملكه بما فيه، وأرسل بأحضار خشداشيه المنفيين. وعندما وصل الخبر إلى علي بك الغزاوي ببركة الرطلي ركب في الحال مع القاتلين وطلعوا إلى القلعة وأخذوا في طريقهم أكابر الوجاقلية، ومنهم حسن كتخدا أبو شنب وهو من أغراض حسين بك المقتول، وكان مريضاً بالآكلة في فمه. فلما دخلوا إليه وطلبوه نزل إليهم من الحريم فأخبروه بقتلهم حسين بك فطلبوه للركوب معهم فاعتذر بالمرض، فلم يقبلوا عذره فتطيلس وركب معهم إلى القلعة، وولوا علي بك كبير البلد عوضاً عن حسين بك المقتول، وكان قتله في شهر صفر سنة1171، ثم أن مماليكه وضعوا أعضاءه في خرج وحملوه على هجين ودخلوا به إلى المدينة فأدخلوه إلى بيت الشيخ الشبراوي بالرويعي فغسلوه وكفنوه ودفنوه بالقرافة. وسكن علي بك المذكور بيت حسين بك الصابونجي الذي بالازبكية وأحضروا علي بك من النوساب وعثمان بك الجرجاوي من أسيوط، وقلدواخليل كاشف صنجقية وإسمعيل أبو مدفع كذلك، وقاسم كاشف قلدوه الزعامة، ثم قلدوا بعد أشهر حسن كاشف المعروف بجوجه صنجقية ايا، وكان ذلك في ولاية علي باشا ابن الحكيم الثانية، فكان حال حسين بك المقتول مع قاتليه كما قال الشاعر:لي باشا ابن الحكيم الثانية، فكان حال حسين بك المقتول مع قاتليه كما قال الشاعر:
وإخوان تخذتهمو دروعاً ** فكانوها ولكن للاعادي

وخلتهمو سهاما صائبات ** فكانوها ولكن في فؤادي

وأما من مات في هذا التاريخ من الأعيان خلاف حسين بك المذكور فالشيخ الإمام الفقيه المحدث الأصولي المتكلم الماهر الشاعر الأديب عبد الله بن محمد بن عامر شرف الدين الشبراوي الشافعي، ولد تقريباً في سنة 1092 هو من بيت العلم والجلالة، فجده عامر بن شرف الدين ترجمه الأميني في الخلاصة ووصفه بالحفظ والذكاء، فأول من شملته أجازته سيدي محمد بن عبد الله الخرشي وعمره إذ ذاك نحو ثمان سنوات، وذلكفي سنة 1100وتوفي الشيخ الخرشي المالكي في سابع عشرين الحجة سنة 1101وتولى بعده مشيخة الأزهر الشيخ محمد النشرتي المالكي وتوفي في ثامن عشري الحجه سنة 1120، ووقع بعد موته فتنة بالجامع الأزهر بسبب المشيخة والتدريس بالاقبغاوية وأفترق المجاورون فرقتين تريد الشيخ أحمد النفراوي، والأخرى تريد الشيخ عبد الباقي القليني ولم يكن حاضراً بمصر، فتعصب له جماعة النشرتي وأرسلوا يستعجلونه للحضور فقبل حضوره تصدر الشيخ أحمد النفراوي وحضر للتدريس بالاقبغاوية فمنعه القاطنون بها، وحضر القليني فأنضم إليه جماعة النشرتي وتعصبوا له فحضر جماعة النفراوي إلى الجامع ليلاً ومعهم بنادق وأسلحة وضربوا بالبنادق في الجامع وأخرجوا جماعة القليني، وكسروا باب الاقبغاوية وأجلسوا النفراوي مكان النشرتي. فاجتمعت جماعة القليني في يومها بعد العصر وكبسوا الجامع وقفلوا أبوابه وتضاربوا مع جماعة النفراوي فقتلوا منهم نحو العشرة أنفار وانجرح بينهم جرحى كثيرة وانتهبت الخزائن وتكسرت القناديل. وحضر الوالي فأخرج القتلى وتفرق المجاورون ولم يبق بالجامع أحد. ولم يصل فيه ذلك اليوم، وفي ثاني يوم طلع الشيخ أحمد النفراوي إلى الديوان ومعه حجة الكشف على المقتولين فلم يلتفت الباشا إلى دعواه لعلمه بتعديه، وأمره بلزوم بيته وأمر بنفي الشيخ محمد شنن إلى بلده الجدية وقبضوا على من كان بصحبته وحبسوهم في العرقانة وكانوا أثني عشر رجلاً. وأستقر القليني في المشيخة والتدريس. ولما مات تقلد بعده الشيخ محمد شنن، وكان النفراوي قد مات. ولما مات الشيخ شنن تقلد المشيخة الشيخ إبراهيم ابن موسى الفيومي المالكي. ولما مات في سنة سبع وثلاثين انتقلت المشيخة إلى الشافعية، فتولاها الشيخ عبد الله السبراوي المترجم المذكور في حياة كبار العلماء، بعد أن تمكن وحضر الأشياخ كالشيخ خليل بن أبراهيم اللقاني والشهاب الخليفي والشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني والشيخ أحمد النفراوي والشيخ منصور المنوفي والشيخ صالح الحنبلي والشيخ محمد المغربي الصغير والشيخ عيد النمرسي. وسمع الأولية وأوائل الكتب من الشيخ عبد الله بن سالم البصر أيام حجه، ولي يزل يترقى في الأحوال والأطوار ويفيد ويملي ويدرس حتى صار أعظم الأعاظم ذا جاه ومنزلة عند رجال الدولة والأمراء، ونفذت كلمته وقبلت شفاعته، وصار لأهل العلم في مدته رفعة مقام ومهابة عند الخاص والعام، وأقبلت عليه الأمراء وهادوه بأنفس ما عندهم وعمر داراً عظيمة على بركة الأزبكية بالقرب من الرويعي، وكذلك ولده سيدي عامر عمر داراً تجاه دار أبيه، وصرف عليها أموالاً جمة. وكان يقتني الظرائف والتحائف من كل شيء والكتب المكلفة النفيسة بالخط الحسن، وكان راتب مطبخ ولده سيدي عامر في كل يوم من اللحم الضاني رأسين من الغنم السمان يذبحان في بيته، وكان طلبة العلم في أيام مشيخة الشيخ عبد الله الشبراوي في غاية الأدب والأحترام. ومن آثاره كتاب مفائح الألطاف في مدائح الأشراف وشرح الصدر في غزوة بدر ألفها بإشارة علي باشا ابن الحكيم وذكر في أخرها نبذة من التاريخ وولاة مصر إلى وقت صاحب الإشارة. وله ديوان يحتوي على غزليات وأشعار ومقاطيع مشهور بأيدي الناس وغير ذلك كثير، توفي في صبيحة يوم الخميس سادس ذي الحجة سنة 1171، وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل عن ثمانين سنة تقريباً.
ومات الشيخ الإمام الأحق بالتقديم الفقيه المحدث الورع الشيخ حسن ابن علي بن أحمد بن عبد الله الشافعي الأزهري المنطاوي الشهير بالمدابغي، أخذ العلوم عن الشيخ منصور المنوفي وعمر بن عبد السلام التطاوني والشيخ عيد النمرسي والشيخ محمد بن أحمد الوزازي ومحمد بن سعيد التنبكتي وغيرهم، خدم العلم ودرس بالجامع الأزهر وأفتى وألف وأجاد، ومنها حاشيته على شرح الخطيب علي أبي شجاع نافعة للطلبة وثلاثة شروح على الآجرومية، وشرح الصيغة الأحمدية وشرح الدلائل وشرح على حزب البحر، وشرح حزب النووي شرحاً لطيفاً. واختصر شرح الحزب الكبير للبناني ورسالة في القراءات العشر، وأخرى في فضائل ليلة القدر، وأخرى في المولد الشريف، وحاشيته على جمع الجوامع المشهورة، وحاشيته على شرح الأربعين لابن حجر، وأختصر سيرة ابن الميت وحاشية التحرير وحاشية على الأشموني وشرح قصيدة المقري التي أولها سبحان من قسم الحظوظ وحاشية على الشيخ خالد، وغير ذلك.
ومات العلامة القدوة شمس الدين محمد بن الطيب بن محمد الشرفي الفاسي ولد بفاس سنة 1110، واستجاز له ولده من أبي الاسرار حسن ابن علي العجمي من مكة المشرفة وعمره إذ ذاك ثلاث سنوات، فدخل في عموم أجازته وتوفي بالمدينة المنورة سنة 1170، وتاريخه مغلق عن ستين عاما رحمه الله تعالى.
ومات الشيخ داود بن سليمان بن أحمد بن محمد بن عمر بن عامر بم خضر الشرنوبي البرهاني المالكي الخربتاوي، ولد سنة 1080، وحضر على كبار أهل العصر كالشيخ محمد الزرقاني والخرشي وطبقتهما وعاش حتى الحق الأحفاد بالأجداد وكان شيخاً معمراً مسنداً له عناية بالحديث. توفي في جمادى الثانية سنة 1170.
ومات الشيخ القطب الصالح العارف الواصل الشيخ محمد بن علي الجزائي القاسمي الشهير بكشك، ورد مصر صغيراً وبها نشأ وحج وأخذ الطريقة عن سيدي أحمد السوسي تلميذ سيدي قاسم، وجعله خليفة القاسمية بمصر، فلوحظ بالأنوار والأسرار، ثم دخل المغرب ليزور شيخه فوجده قد مات قبل وصوله بثلاثة أيام، وأخبره تلامذة الشيخ أن الشيخ أخبر بوصول المترجم وأودع له أمانة فأخذها ورجع إلى مصر وجلس للإرشاد وأخذ العهود، ويقال أبه تولى القطبانبة، توفي سنة 1170. ومات الشيخ الفاضل العلامة محمد بن أحمد الحنفي الأزهري الشهير بالصائم، تفقه على سيدي علي العقدي والشيخ سليمان المنصوري والسيد محمد أبي السعود وغيرهم، وبرع في معرفة فروع المذهب ودرس بالأزهر وبمسجد الحنفي ومسجد محرم في أنواع الفنون، ولازم الشيخ العقيقي كثيراً ثم أجتمع بالشيخ أحمد العريان، وتجرد للذكر والسلوك وترك علائق الدنيا ولبس زي الفقراء ثم باع ما ملكت يداه، وتوجه إلى السويس، فركب في سفينة فانكسرت فخرج مجردا يساتر العورة. ومال إلى بعض خباء الأعراب فأكرمته امرأة منهم وجلس عندها مدة يخدمها، وثم وصل إلى المنبع على هيئة رثه وأوى إلى جامعها. وأتفق له أنه صعد ليلة من الليالي على المنارة وسبح على طريقة المصريين، فسمعه الوزير إذ كان منزله قريباً من هناك، فلما أصبح طلبه وسأله فلم يظهر حاله سوى أنه من الفقراء، فأنعم عليه ببعض ملابس وأمره أن يحضر إلى داره كل يوم للطعام، ومضت على ذلك برهة إلى أن اتفق موت بعض مشايخ العربان وتشاجر أولاده بسبب قسمة التركة، فأتوا إلى الينبع يستفتون فلم يكن هناك من يفك المشكل، فرأى الوزير أن يكتب السؤال ويرسله مع الهجان بأجرة معينة إلى مكة يستفتي العلماء فاستقل الهجان الآجرة ونكص عن السفر، ووقع التشاجر في دفع الزيادة للهجان، وأمتنع أكثرهم ووقعوا في الحيرة. فلما رأى المترجم ذلك طلب الدواة والقلم وذهب إلى خلوة له بالمسجد فكتب الجواب مفصلاً بنصوص المذهب وختم عليها، وناوله للوزير فلما قرأ تعجب وأكرمه الوزير وأجله ورفع منزلته وعين له من المال والكسوة وصار يقرأ دروس الفقه والحديث هناك حتى أشتهر أمره وأقبلت عليه الدنيا. فلما أمتلأ كيسه وانجلى بؤسه وقرب ورود الركب المصري، رأى الوزير تفلته من يده فقيد عليه، ثم لما لم يجد بدا عاهده على أنه يحج ويعود إليه، فوصل مع الركب إلى مكة وأكرم وعاد إلى مصر، ولم يزل على حالة مستقيمة حتى توفي عن فالج جلس فيه شهوراً في سنة 1170، وهو منسوب إلى سفط الصائم إحدى قرى مصر من إعمال الفشن بالصعيد الأدنى، ولم يخلف في فضائله مثله رحمه الله.
ومات الإمام الأديب المتفنن أعجوبة الزمان على بن تاج الدين محمد ابن عبد المحسن بن محمد بن سالم القلعي الحنفي المكي، ولد بمكة وتربى في حجر أبيه في غاية العز والسيادة والسعادة، وقرأ عليه وعلى غيره من فضلاء مكة، وأخذ عن الواردين إليها، ومال إلى فن الأدب وغاص في بحره فاستخرج منه اللآلى والجواهر، وطارح الأدباء في المحاضر فبان فضله وبهر برهانه ورحل إلى الشام في سنة 1142 وأجتمع بالشيخ عبد الغني النابلسي، فأخذ عنه وتوجه إلى الروم، وعاد إلى مكة، وقدم إلى مصر سنة ستين، ثم غاب عنها نحو عشر سنين ثم ورد عليها، وحينئذ كمل شرحه على بديعيته وعلى بديعيتين لشيخه الشيخ عبد الغني وغيره ممن تقدم، وهي عشر بديعيات وشرحه على بديعيته ثلاث مجلدات، قرظ عليه غالب فضلاء مصر كالشبراوي والادكاوي والمرحومي ومن أهل الحجاز الشيخ إبراهيم المنوفي وكان للمترجم بالوزير المرحوم علي باشا ابن الحكيم التئام زائد لكونه له قوة يد ومعرفة في علم الرمل، وكان في أول اجتماعه به في الروم أخبره بأمور، فوقعت كما ذكرن فازداد عنده مهابة وقبولا. ولما تولى المذكور ثاني توليته، وهي سنة سبعين، قدم إليه من مكة من طريق البحر فأغذق عليه ما لا يوصف ونزل في منزل بالقرب من جامع أزبك بخط الصليبة، وصار يركب في موكب حافل تقليداً للوزير. ورتب في بيته كتخدا وخازندار والمصرف والحاجب على عادة الأمراء، وكان فيه الكرم المفرط والحياء والمروءة وسعة الصدر في أجازة الوافدين مالاً وشعراً. ومدحه شعراء عصره بمدائح جليلة منهم الشيخ عبد الله الادكاوي له فيه عدة قصائد، وجوزي بجوائز سنية. ولما عزل مخدومه توجه إلى بلاد الروم، فلما ولى الختام ثانيا زاد المترجم عنده أبهة حتى صار في سدة السلطنة أحد الأعيان المشار إليهم، وأتخذ داراً واسعة فيها أربعون قصراً، ووضع في كل قصر جارية بلوازمها. ولما عزل الوزير ونفي إلى إحدى مدن الروم سلب المترجم جميع ما كان بيده ونفي إلى الإسكندرية. فمكث هناك حتى مات سنة 1172 شهيداً غريباً، ولم يخلف بعده مثله. وله ديوان شعر ورسائل منها تكميل الفضل بعلم الرمل ومتن البديعية سماه الفرج في مدح عالي الدرج أقترح فيها بأنواع منها وسع الأطلاع والتطريز والرث والأعتراف والعود والتعجيب والترهيب والنعريض، وأمثلة ذلك كله موضحة في شرحه على البديعية. ولما تغيرت دولة مخدومه وتغير وجه الزمان عاد روض أنسه ذابل الأفنان، ذا أحزان وأشجان، لم يطب له المكان ودخل اسم عزه في خبر كان وتوفي في نحو هذا التاريخ.
ومات العمدة الأجل النبيه الفصيح المفوه الشيخ يوسف بن عبد الوهاب الدلجي، وهو أخو الشيخ محمد الدلجي، كلاهما ابنا خال المرحوم الوالد وكان إنساناً حسناً ذا ثروة وحسن عشرة، وكان من جملة جلساء الأمير عثمان بك ذي الفقار ولديه فضيلة ومناسبات ويحفظ كثيراً من النوادر والشواهد، وكان منزله المشرف على النيل ببولاق مأوى اللطفاء والظرفاء، ويقتني السراري والجواري، توفي سنة 1171 عن ولديه حسين وقاسم وابنة أسمها فاطمة موجودة في الأحياء إلى الآن.
ومات الشيخ النبيه الصالح علي بن خضر بن أحمد العمروسي المالكي أخذ عن السيد محمد السلموني والشهاب النفرواي والشيخ محمد الزرقاني، ودرس بالجامع الأزهر وأنتفع به الطلبة، وأختصر المختصر الخليلي في نحو الرابع ثم شرحه وكان إنساناً حسناً منجمعاً عن الناس مقبلاً على شأنه توفي سنة 1173.
ومات الأستاذ المبجل ذو المناقب الحميدة السيد شمس الدين محمد أبو الأشراق بن وفي وهو ابن أخي الشيخ عبد الخالق ولما توفي عمه في سنة 1161 خلفه في المشيخة والتكلم، وكان ذا أبهة ووقار محتشماً سليم الصدر كريم النفس بشوشاً. توفي سادس جمادى الأولى سنة 1171 وصلي عليه بالأزهر، وحمل إلى الزاوية فدفن عند عمه، وقام بعده في الخلافة الأستاذ مجد الدين محمد أبو هادي ابن وفي رضي الله عنهم أجمعين.
ومات الإمام العلامة الفريد الفقيه الفرضي الحيسوبي الشيخ حسين المحلي الشافعي، كان وحيد دهره وفريد عصره، فقهاً وأصولاً ومعقولاً جيد الاستحضار والحفظ للفروع الفقهية. وأما في علم الحساب الهوائي والغباري والفرائض وشباك ابن الهائم والجبر والمقابلة والمساحة وحل الأعداد فكان بحراً لا تشبهه البحار، ولا يدرك له قرار، وله في ذلك عدة تآليف بخطه ويبيعها لمن يرغب فيها، ويأخذ من الطالبين أجرة على تعليمهم، فإذا جاء من يريد التعلم وطلب أن يقرأ عليه الكتاب الفلاني تعزز عليه وتمنع ويساومه على ذلك بعد جهد عظيم، وكان له حانوت بجوار باب الأزهر يتكسب فيه ببيع المناكيب لمعرفة الأوقات والكتب وتسفيرها. وألف كتاباً حافلاً في الفروع الفقهية على مذهب الإمام الشافعي، وهو كتاب ضخم في مجلدين معتبر مشهور معتمد الأقوال في الأفتاء، وله غير ذلك كثير. وبالجملة فكان طودا راسخاً تلقى عنه كثير من أشياخ العصر، ومنهم شيخنا الشيخ محمد الشافعي الجناجي المالكي وغيره. توفي سنة 1170.
ومات الشيخ الإمام المعمر القطب أحد مشايخ الطريق صاحب الكرامات الظاهرة والأنوار الساطعة الباهرة عبد الوهاب بن عبد السلام بن أحمد ابن حجازي بن عبد القادر بن أبي العباس بن مدين بن أبي العباس بن عبد القادر بن أبي العباس بن شعيب بن محمد بن القطب سيدي عمر الرزوقي العفيفي المالكي البرهاني، يتصل نسبه إلى القطب الكبير سيدي مرزوق الكفافي المشهور، ولد المترجم بمنية عفيف إحدى قرى مصر ونشأ بها على صلاح وعفة، ولما ترعرع قدم إلى مصر، فحضر على شيخ المالكية في عصره الشيخ سالم النفراوي أياما في مختصر الشيخ خليل، وأقبل على العبادة وقطن بالقاعة بالقرب من الأزهر بجوار مدرسة السنانية، وحج فلقي بمكة الشيخ أدريس اليماني فأجازه وعاد إلى مصر، وحضر دروس الحديث على الإمام المحدث الشيخ أحمد بن مصطفى الإسكندري الشهير بالصباغ، ولازمه كثيرا حتى عرف به. وأجازه مولاي أحمد التهامي حين ورد إلى مصر بطريقة الأقطاب والأحزاب الشاذلية والسيد مصطفى البكري بالخلوتية. ولما توفي شيخه الصباغ لازم السيد محمد البليدي في دروسه من ذلك تفسير البيضاوي بتمامه. وروى عنه جملة من أفاضل عصره كالشيخ محمد الصبان والسيد محمد مرتضى والشيخ محمد بن إسمعيل النفراوي،وسمعوا عليه صحيح مسلم بالاشرفية وكان كثير الزيارة لمشاهد الأولياء متواضعاً لا يرى لنفسه مقاما متحرزاً في مأكله وملبسه، لا يأكل إلا ما يؤتى إليه من زرعه من بلده من العيش اليابس مع الدقة، وكانت الأمراء تأتي لزيارته ويشمئز منهم ويفر منهم في بعض الأحيان. وكل من دخل عنده يقدم له ما تيسر من الزاد من خبزه الذي كان يأكل منه. وأنتفع به المريدون وكثروا في البلاد ونجبوا ولم يزل يترقى في مدارج الوصول إلى الحق، حتى تعلل أياما بمنزله الذي بقصر الشوك. توفي في ثاني عشر صفر سنة 1172، ودفن بجوار سيدي عبد الله المنوفي، ونزل سيل عظيم، وذلك في سنة 1178، فهدم القبور وعامت الأموات فانهدم قبره وامتلأ بالماء، فاجتمع أولاده ومريدوه وبنوا له قبراً في العلوة على يمين تربة الشيخ المنوفي، ونقلوه إليه قريبا من عمارة السلطان قايتباي، وبنوا على قبره قبة معقودة وعملوا له مقصورة ومقاما من داخلها، وعليه عمامة كبيرة وصيروه مزارا عظيماً يقصد للزيارة ويختلط به الرجال والنساء. ثم أنشأوا بجانبه قصراً عالياً عمره محمد كتخدا اباظة وسوروا له رحبة متسعة مثل الحوش لموقف الدواب من الخيل والحمير دثروا بها قبورا كثيرة، بها كثير من أكابر الأولياء والعلماء والمحدثين غيرهم من المسلمين والمسلمات. ثم أنهم أبتدعوا له موسماً وعيداً في كل سنة يدعون إليه الناس من البلاد القبلية والبحرية، فينصبون خياماً كثيرة وصواوين ومطابخ وقهاوي ويجتمع العالم الأكبر من أخلاط الناس وخواصهم وعوامهم وفلاحي الأرياف وأرباب الملاهي والملاعب والغوازي والبغايا والقرادين والحواة، فيملأون الصحراء والبستان فيطأون القبور يوقدون عليها النيران ويصبون عليها القاذورات ويبوبون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلاً ونهاراً، ويستمر ذلك نحو عشرة أيام أو أكثر، ويجتمع لذلك أيضاً الفقهاء والعلماء وينصبون لهم خياماً أيضاً، ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة من غير إنكار، بل ويعتقدون ذلك قربة وعبادة. ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء فضلاً عن كونهم يفعلونه، فالله يتولى هدانا أجمعين.
ومات الشيخ الأجل المعظم سيدي محمد بكري بن أحمد بن عبد المنعم ابن محمد بن أبي السرور محمد بن القطب أبي المكارم محمد أبيض الوجه ابن أبي الحسن محمد بن الجلال عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن محمد بن عوض بن محمد بن عبد الخالق بن عبد المنعم بن يحيى بن الحسن بن موسى بن يحيى بن يعقوب بن نجم بن عيسى بن شعبان ابن عيسى بن داود بن محمد بن نوح بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق، وكان يقال له سيدي أبو بكر البكري شيخ السجادة بمصر ولاه أبوه الخلافة في حياته لما تفرس فيه النجابة، مع وجود أخوته الذين هم أعمامه، وهم أبو المواهب وعبد الخالق ومحمد بن عبد المنعم. فسار في المشيخة أحسن سير وكان شيخاً مهيباً ذا كلمة نافذة وحشمة زائدة تسعى إليه الوزراء والأعيان والأمراء. وكان الشيخ عبد الله الشبراوي يأتيه في كل يوم قبل الشروق يجلس معه مقدار ساعة زمانية ثم يركب ويذهب إلى الأزهر. ولما مات خلفه ولده الشيخ سيد أحمد وكان المترجم متزوجاً بنت الشيخ الحنفي فأولدها سيدي خليلا وهو الموجود الآن تركه صغيراً فتربى في كفالة ابن عمه السيد محمد أفندي ابن علي أفندي الذي أنحصرت فيه المشيخة بعد وفاة ابن عمه الشيخ سيد أحمد مضافة إلى نقابة السادة الأشراف، كما يأتي ذكر ذلك أن شاء الله. وكانت وفاة المترجم في أواخر شهر صفر سنة 1171.
ومات أيضاً في هذه السنة السلطان عثمان خان العثماني. وتولى السلطان مصطفى بن أحمد خان، وعزل علي باشا ابن الحكيم وحضر إلى مصر محمد سعيد باشا في أواخر رجب سنة 1171واستمر في ولاية مصر إلى سنة 1173. وفي تلك السنة نزل مطر كثير سالت منه السيول.
ومات أفضل النبلاء وأنبل الفضلاء بلبل دوحة الفصاحة وغريدها، من انحازت له بدائعها طريفها وتليدها، الماجد الأكرم مصطفى أسعد اللقيمي الدمياطي، هو أحد الأخوة الأربعة وهم عمر ومحمد وعثمان والمترجم أولاد المرحوم أحمد بن أحمد بن صلاح الدين اللقيمي الدمياطي الشافعي سبط العنبوسي، وكلهم شعراء بلغاء توفي سنة 1173.
وما أديب الزمان وشاعر العصر والأوان العلامة الفاضل شمس الدين الشيخ محمد سعيد بن محمد الحنفي الدمشقي الشهير بالسمان، ورد إلى مصر في سنة 1144 فطارح الأدباء وزاحم بمناكبه الفضلاء، ثم عاد إلى وطنه وورد إلى مصر أيضاً في سنة 1172 وكان ذا حافظة وبراعة وحسن عشرة وصار بينه وبين الشيخ عبد الله الادكاوي محاضرات ومطارحات وذكره في مجموعته وأثنى عليه وأورد له من شعره كثيراً ثم توجه إلى الشام وقد وافاه الحمام ودفن بالصالحية سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف.
ومات الشيخ الصالح الشاعر اللبيب الناظم الناثر الشيخ عامر الأنبوطي الشافعي شاعر مفلق هجاء، ليب شراره محرق، كان يأتي من بلده يزور العلماء والأعيان. وكلما رأى لشاعر قصيدة سائرة قلبها وزنا وقافية إلى الهزل والطبيخ، فكانوا يتحامون عن ذلك. وكان الشيخ الشبراوي يكرمه ويكسيه ويقول له: يا شيخ عامر لا تزفر قصيدتي الفلانية وهذه جائزتك. ومن بعده الشيخ الخفني كان يكرمه ويغدق عليه ويستأنس لكلامه. وكان شيخاً مسناً صالحاً مكحل العينين دائماً عجيباً في هيئته، ومن نظمه ألفية الطعام على وزن ألفية ابن مالك، وأولها:
يقول عامر هو الانبوطي ** أحمد ربي لست بالقنوطي

ومات الأمير الكبير عمر بك بن حسن بك رضوان، وذلك أنه لما قلد إبراهيم كتخدا تابعه علي بك الكبير إمارة الحج وطلع بالحجاج، ورجع في سنة 1167، ونزل عليهم السيل العظيم بظهر حمار، وألقى الحجاج وأحمالهم إلى البحر، ولم يرجع منهم إلا القليل، تشاور فيمن يقلدونه إمارة الحج فاقتضى رأي إبراهيم كتخدا تولية المترجم، وقد صار مسناً هرماً فاستعفى من ذلك، فقال له إبراهيم كتخدا: أما أن تطلع بالحج أو تدفع مائتي كيس مساعدة. فحضر عند إبراهيم كتخدا فرأى منه الجد. فقال: إذا كان ولابد فأني أصرفها واحد ولو أني أصرف ألف كيس. ثم توجه إلى القبلة وقال: اللهم لا ترني وجه إبراهيم هذا بعد هذا اليوم أما أني أموت أو هو يموت. فاستجاب الله دعوته ومات إبراهيم كتخدا في صفر قبل دخول الحجاج إلى مصر بخمسة أيام. وتوفي عمر بك المذكور سنة 1171.
ومات الرجل الفاضل النبيه الذكي المتفنن المتقن الفريد الأوسطي إبراهيم السكاكيني، كان إنسانا حسناً عطارديا يصنع السيوف والسكاكين، ويجيد سقيها وجلاءها ويصنع قراباتها ويسقطها بالذهب والفضة، ويصنع المقاشط الجيدة الصناعة والسقي والتطعيم والبر كارات للصنعة وأقلام الجدول الدقيقة الصنعة المخرمة، وغير ذلك. وكان يكتب الخط الحسن الدقيق بطريقة متسقة معروفة من دون الخطوط لا تخفى، وكتب بخطه ذلك كثيراً مثل مقامات الحريري وكتب أدبية ورسائل كثيرة في الرياضيات والرسميات وغير ذلك، وبالجملة، فقد كان فريدا في ذاته وصفاته وصناعته لم يخلف بعده مثله. توفي في حدود هذا التاريخ وكان حانوته تجاه جامع المرداني بالقرب من درب الصياغ.
وفي تلك السنة، أعني سنة 1171، نزل مطر كثير سالت منه السيول وأعقبه الطاعون المسمى بقارب شيحة، الذي أخذ المليح والمليحة. مات به الكثير من الناس المعروفين وغيرهم ما لا يحصى ثم خف وأخذ ينقر في سنة 1172 وكان قوة عمله في رجب وشعبان، وولد للسلطان مصطفى مولود في تلك السنة وورد الأمر بالزينة في تلك الأيام. وهذا المولود هو السلطان سليم المتولي الآن، ولما قتل حسين بك القازدغلي المعروف بالصابونجي وتعين في الرياسة بعده علي بك الكبير وأحضر خشداشينه المنفيين، وأستقر أمرهم، وتقلد إمارة الحج سنة 1173 فبيت مع سليمان بك الشابوري وحسن كتخدا الشعراوي وخليل جاويش حيضان مصلي وأحمد جاويش المجنون، وأتفق معهم على قتل عبد الرحمن كتخدا في غيبته، وأقام عوضه في مشيخة البلد خليل بك الدفتر دار، فلما سافر استشعر عبد الرحمن كتخدا بذلك، فشرع في نفي الجماعة المذكورين، فأغرى بهم علي بك بلوط فبن فنفى خليل جاويش حيضان مصلي وأحمد جاويش إلى الحجاز من طريق السويس على البحر، ونفى حسن كتخدا الشعراوي وسليمان بك الشابوري مملوك خشداشه إلى فارسكور. فلما وصل علي بك وهو راجع بالحج إلى العقبة وصل إليه الخبر، فكتم ذلك وأمر بعمل شنك يوهم من معه بأن الهجان أتاه بخبر سار، ولم يزل سائراً إلى أن وصل إلى قلعة نخل، فانحاز إلى القلعة وجمع الدويدار وكتخدا الحج والسدادرة وسلمهم الحجاج والمحمل، وركب في خاصته وسار إلى عزة، وسار الحجاج من غير أمير إلى أن وصلوا إلى أجرود، فأقبل عليهم حسن بك كشكش ومن معه يريد قتل علي بك فلم يجده، فحضر بالحجاج ودخل بالمحمل إلى مصر وأستمر علي بك بغزة نحو ثلاثة شهر وأكثر، وكاتب الدولة بواسطة باشة الشام، فارسلوا إليه واحداً أغا ووعدوه ومنوه وتحيلوا عليه حتى استقصوا ما معه من المال والأقمشة وغير ذلك. ثم حضر إلى مصر بسعاية نسيبه علي كتخدا الخربطلي وأغراضه، ومات بعد وصوله إلى مصر بثمانية أيام. يقال أن بعض خشداشينه شغله بالسم حين كان يطوف عليهم للسلام.